الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير **
قال بعض العارفين: دخل ابن قانع على بلال بن أبي بردة في يوم حار وهو في روضة وعنده الثلج فقال بلال: كيف ترى بيتنا هذا؟ قال: إنه لطيب والجنة أطيب منه وذكر النار يلهي عنه، قال: ما تقول في القدر؟ قال: جيرانك أهل القبور تفكر فيهم فإن فيهم شغلاً عنه، قال: ادع لي، قال: ما تصنع بدعائي وببابك جمع كل منهم يقول إنك ظلمته يرتفع دعاؤهم قبل دعائي؟ لا تظلم فلا تحتاج لدعائي. - (طب عن ابن مسعود وعن ثوبان) الهاشمي مولى المصطفى صلى الله عليه وسلم (عد عن عمر) قال الحافظ العراقي في سنده ضعيف، وقال الهيتمي فيه يزيد بن ربيعة ضعيف، وقال ابن رجب: روي من وجوه في أسانيدها كلها مقال، وبه يعرف ما في رمز المؤلف لحسنه تبعاً لابن صصرى ولعله اعتضد. 616 - (إذا ذكرتم بالله) بالبناء للمفعول مشدّداً أي إذا ذكركم أحد بوعيد الله وأليم عقابه وقد عزمتم على فعل شيء (فانتهوا) أي كفوا عنه إجلالاً لذكره تعالى وإعظاماً له، وهذا كقول المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد أقبل على أبي مسعود وهو يضرب غلاماً له: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر منك عليك على هذا الغلام. - (البزار عن أبي سعيد) واسمه كيسان بفتح وسكون (المقبري) بتثليث الموحدة مولى أم شريك العنبسية، قيل له المقبري لأنه كان ينزل عند المقابر أو لأن عمر جعله على حفرها، فالمقبري صفة لأبي سعيد، وظاهر صنيع المؤلف أن البزار لم يخرجه إلا مرسلاً ولا كذلك بل خرجه عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال أحسبه يرفعه.أهـ. فالتردد إنما هو في وقفه ورفعه لا في إرساله وعدمه. وقال الهيتمي فيه عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد وهو ضعيف. 617 - (إذا ذلت) بالتشديد بضبط المؤلف (العرب) المؤمنون المستعربة بنو إسماعيل: أي ضعف أمرها وهان قدرها وظلموا وازدروا واحتقروا وفضل عليهم غيرهم (ذل الإسلام) أي أهله أو نفسه لأن شؤم ذلك يعود على الدين بالوهن والضعف وذلك لأن أصل الإسلام نشأ منهم وبهم ظهر وانتشر فإذا ذلوا ذل أي نقص لأن الإسلام لا يصلح وينتظم حاله إلا بالجود والسماحة واللين والمودّة والرفق وتجنب البخل والضيق والعجلة والحقد والحرص، والعرب سهلة نفوسها كريمة طباعها زكية أخلاقها لا ينكر ذلك إلا معاند ولا يجحده إلا مارد. فإذا كانوا في عز فالإسلام في عز وإذا ذلوا ذل. فبتلك الخلال فضلوا لا باللسان العربي فحسب. - (ع عن جابر) قال العراقي في الغريب صحيح وقال الهيتمي فيه محمد بن خطاب البصري ضعفه الأزدي وغيره ووثقه ابن حبان وغيره وبقية رجاله رجال الصحيح، ورمز المصنف لضعفه باطل. 618 - (إذا رأى أحدكم الرؤيا) هي بمعنى الرؤية لكنها خصت بما يرى في النوم دون اليقظة وفرق بينهما بحرفي التأنيث كقربة وقربى كذا في الكشاف (الحسنة) وهي ما فيه بشارة أو نذارة أو تنبيه على تقصير أو غفول أو نحو ذلك [ص 349] (فليفسرها) أي فليقصها ندباً (وليخبر بها) وادّاً أو عارفاً كما يأتي في خبر ولا يستلزم أحد المعطوفين الآخر، فقد يراد بالثاني الإخبار على وجه الحكاية عما يسر لا لطلب التفسير (وإذا رأى) أحدكم (الرؤيا القبيحة) ضد الحسنة (فلا يفسرها) أي لا يقصها على أحد ليفسرها له (ولا يخبر بها) أحداً فيكره ذلك بل يستعيذ بالله من شرها وشر الشيطان ويتفل عن يساره ثلاثاً ويتحول لجنبه الآخر، قيل ويقرأ آية الكرسي. قال الغزالي: الرؤيا من عجائب صنعه تعالى وبدائع فطرة الآدمي وهي من أوضح الأدلة على عالم الملكوت والخلق غافلون عنها لغفلتهم عن سائر عجائب القلب وعجائب العالم، والقول في حقيقتها من دقائق علوم المكاشفة ولا يمكن ذكره علاوة بل على عالم المعاملة، لكن القدر الذي يمكن التعبير عنه وذكره في مثال يفهمك المقصود، وهو أن القلب كالمرآة تتجلى فيها الحقائق وكل ما قدر من ابتداء خلق العالم إلى آخره منقوش في اللوح نقشاً لا يشاهد لهذه العين وهو لوح لا يشبه لوح الخلق وكتابته واللوح كالمرآة ظهرت فيها الصور فلو وضع في مقابل المرآة مرآة وتراءت كل منهما في الأخرى حيث لا حجاب فالقلب مرآة تمثيل رسوم العلوم واللوح مرآة رسوم جميع العلوم واشتغال القلب بشهواته ومقتضى حواسه حجاب بينه وبين مطالعة اللوح فإن هبت ريح حولت الحجاب ورفعته تلألأ في مرآة القلب شيء من عالم الملكوت كالبرق الخاطف وقد يثبت ويدوم وما دام متيقظاً فهو مشغول بما تورده الحواس عليه من عالم الشهادة وهي حجاب عن عالم الملكوت فإذا ركدت الحواس بالنوم تخلص منه ومن الخيال فكان صافياً في جوهره فارتفع الحجاب بينه وبين اللوح فيقع في قلبه شيء مما فيه كما تقع صورة من مرآة إذا ارتفع الحجاب بينهما غير أن النوم يمنع الحواس عن العمل ولا يمنع الخيال عن تحركه فيما يقع في القلب فيحاكيه بمثال يقاربه ويبقى الخيال في الحفظ فيحتاج المعبر أن ينظر هذا الخيال حكى أي معنى من المعاني فيرجع إلى المعاني المناسبة أهـ. وقد أكثر الناس من الكلام في حقيقة الرؤيا من الإسلاميين وغيرهم مما ينبو عن نطاق الحصر. - (ت عن أبي هريرة) رمز لحسنه تبعاً للترمذي وحقه الرمز لصحته وظاهر صنيع المصنف أن الترمذي تفرد بإخراجه عن الستة ولا كذلك فقد رواه ابن ماجه عن أبي هريرة باللفظ المزبور. 619 - (إذا رأى أحدكم) في منامه (الرؤيا يكرهها) الجملة صفة للرؤيا أو حال منها، قال القاضي: والرؤيا انطباع الصورة المنحدرة عن أفق المتخيلة إلى الحس المشترك الصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أو في فراغ فيتصور ما فيها مما يليق من المعاني الحاصلة هناك. ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة متناسبة فيرسلها إلى الحس المشتري فتصير مشاهدة ثم إن كانت شديدة المناسبة بذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بأدنى شيء استغنت عن التعبير وإلا احتاجت (فليبصق) بالصاد ويقال بسين وبزاي (عن يساره) أي عن جانبه الأيسر (ثلاثاً) كراهة لما رأى وتحقيراً للشيطان الذي حضرها واستقذاراً له وخص اليسار لأنه محل الأقذار والمكروهات والتثليث للتأكيد (وليستعذ بالله) بجمع همة وحضور قلب وصفاء باطن وصحة توجه فلا يكفي إمرار الاستعاذة باللسان كما أشار إليه بعض الأعيان (من الشيطان) الرجيم (ثلاثاً) بأن يقول أعوذ بالله من شر الشيطان الرجيم ومن شرها لأنها بواسطته (وليتحول) أي ينتقل (عن جنبه الذي كان) مضطجعاً (عليه) حين رأى ذلك تفاؤلاً بتحول تلك الحالة ومجانبة لمكانه ولهذا أمر الناعس يوم الجمعة بالتحول، والتحول التنقل من شيء إلى غيره، والجنب ما تحت الإبط إلى الكشح. قال الراغب: وأصله الجارحة ثم يستعار في الناحية التي تليها كعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال. قال ابن حجر: ورد في صفة التعوذ من شر الرؤيا أثر صحيح [ص 350] أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد الرزاق بأسانيد صحيحة عن النخعي: إذا رأى أحدكم في منامه ما يكره فليقل إذا استيقظ أعوذ بما عاذت به ملائكة الله ورسله من شر رؤياي هذه أن يصيبني منها ما أكره في ديني ودنياي. - (م د ه عن جابر) ورواه عنه أيضاً النسائي. 620 - (إذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها فليتحول وليتفل عن يساره ثلاثاً) أي وليبصق بصقاً خفيفاً بلا ريق من جهته اليسرى ثلاث مرات. قال في الصحاح: التفل شبيه بالبصق وهو أقل منه أوله البزاق ثم التفل ثم النفث ثم النفخ قال الزركشي: جاء في رواية فليتفل، وفي أخرى ينفث، وفي أخرى: يبصق، وبينهما تفاوت فينبغي فعل الكل لأنه زجر للشيطان فهو من باب رمي الجمار (وليسأل الله من خيرها) أي الرؤيا (وليتعوذ بالله من شرها) أمره في هذا الخبر وما قبله بأربعة أشياء: التحول، والاستعاذة، والتفل، والكتم، متى فعل ذلك لم تضره: بل ذلك دافع لشرها (فإن قلت) قدم في الخبر قبله البصق فالاستعاذة فالتحول، وهنا قدم التحول وأخر التعوذ فهل من حكمة؟ (قلت) أجل وهي الإشارة إلى أنه كيف فعل كفى، فإن عدم اقتضاء الواو للترتيب غير متفق عليه فدفع ما عساه يتوهم لتخالف النظم. وفي رواية لمسلم: إذا رأى أحدكم ما يكره فليصل: أي لتكمل الرغبة ويصح الطلب فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، قال القرطبي: وليس هذا مخالفاً لقوله هنا: فليتحول وليتفل إلخ وإنما الأمر بالصلاة زيادة ينبغي إضافتها إلى ما في هذا الحديث فليفعل الكل وقد يقال اقتصر على الصلاة لتضمنها جميع تلك الأمور لأنه إذا قام للصلاة تحول عن جنبه وإذا توضأ تمضمض فنفث وبصق وإذا أحرم تعوذ ودعا وتضرع لله في حال هي أقرب إجابة أهـ ومتى فعل ما أمر به مما تقرر لم يضره ببركة الصدق والتصديق والامتثال: وفائدة ذلك أن لا يشغل الرائي نفسه برؤية ما يكره وأن يعرض عنه ولا يلتفت إليه. قال الحكيم الترمذي: التفل الذي أمر به المصطفى صلى الله عليه وسلم واصل إلى وجه الشيطان واقع عليه فالتفل مع تعوذ الرائي بالله يرد الذي جاء به من النزعة والوسوسة كالنار إلى وجهه فيحترق فيصير قروحاً، ورد عن الربيع بن خيثم أنه قص عليه رؤيا منكرة فأتاه رجل وقال رأيت في النوم رجلاً يقول أخبر الربيع بأنه من أهل النار، فتفل عن يساره وتعوذ، فرأى ذلك الرجل في الليلة الثانية أن رجلاً جاء بكلب فأقامه بين يديه وفي عنقه حبل وبجبهته قروح فقال هذا ذلك الشيطان وهذه القروح تلك النفثات التي نفثتها في وجهه الربيع. - (ه عن أبي هريرة) وهذا الحديث في نسخ لا تحصى ولم أره في نسخة المؤلف التي بخطه. 621 - (إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها) بأن يقول الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما يحبه قال ذلك (وليحدّث بها) غيره (وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي) أي الرؤيا (من الشيطان) ليحزنه ويشوش عليه فكره ليشغله عن العبادة فلا يخبر بها ولا يشتغل بها. قال النووي: جعل ما هو علامة عل ما يضر منتسباً للشيطان مع أن الله هو خالق للرؤيا مجازاً لحضوره عندها، لا على أن الشيطان يفعل ما يشاء. وقيل: إضافة الرؤيا المحبوبة إلى الله إضافة تشريف، وإضافة المكروهة إلى الشيطان لأنه يرضاها (فليستعذ بالله) من شرها وشر الشيطان (ولا يذكرها لأحد) فإنه ربما فسرها تفسيراً مكروهاً على ظاهر [ص 351] صورتها وكان ذلك محتملاً فوقعت كذلك بتقدير الله (فإنها لا تضره) فإنه تعالى جعل فعله من النعوذ والتفل وغيره سبباً لسلامته من مكروه يترتب عليها كما جعل الصدقة وقاية للمال وسبباً لدفع البلاء. قال ابن عربي: من حافظ على ما ذكره في هذا الحديث من الاستعاذة والكتم يرى برهانه فإن كثيراً من الناس وإن استعاذ يتحدث بما رآه، فأوصيك أن لا تفعل. وقال بعضهم: محصل الحديث أن الرؤيا الصالحة آدابها ثلاثة: حمد الله وأن يستبشر بها وأن يتحدّث بها لمن يحب لا لغيره، وآداب الحلم الرديء أربعة: التعوّذ من شره وشر الشيطان. ويتفل حين ينتبه، ولا يذكرها لأحد. واستثنى الداودي من نوم ما يكره ما يكون في الرؤيا الصادقة لكونها قد تقع إنذاراً كما تقع تبشيراً وفي الإنذار نوع ما يكرهه الرائي فلا يشرع التعوّذ إذا عرف أنها صادقة بدليل ما رآه المصطفى صلى الله عليه وسلم من البقر التي تنحر وثلم ذباب سيفه لكن لا يلزم من ترك التعوذ ترك التحول والصلاة فقد يكون سبباً لدفع مكروه الإنذار مع حصول مقصوده، على أن المنذرة قد ترجع لمعنى المبشرة. قال بعضهم: يسنّ لمن رأى رؤيا من المبشرات أن يقول ما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم لما رأى في المنام أن جبريل لما أتاه بعائشة في سرقة حرير بيضاء وقال له هذه زوجتك فلما قصها على أصحابه قال إن يكن من الله يمضه فأتى بالشرط لسلطان الاحتمال الذي يعطيه مقام النوم وحضرة الخيال فكان كما رأى. قال بعض العارفين: الأدب يعطي أن يقول ذلك، وما قلته قط إلا وخرجت كفلق الصبح. - (حم خ ت عن أبي سعيد) وهذا الحديث في نسخ كثيرة وليس في خط المؤلف. 622 - (إذا رأى) أي علم (أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه) من النسب أو الإسلام (ما يعجبه) أي ما يستحسنه ويرضاه من أعجبه الشيء رضيه (فليدع له بالبركة) ندباً بأن يقول اللهم بارك فيه ولا تضره ويندب أن يقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لخبر رواه أبو داود (فإن العين) أي الإصابة بالعين (حق) أي كائن يقضي به في الوضع الإلهي لا شبهة في تأثيرها في النفوس فضلاً عن الأموال وذلك لأن بعض النفوس الإنسانية يثبت لها قوة هي مبدأ الأفعال الغريبة ويكون ذلك إما حاصلاً بالكسب كالرياضة وتجريد الباطن عن العلائق وتذكيته فإنه إذا اشتد الصفاء والذكاء حصلت القوة المذكورة كما يحصل للأولياء أو بالمزاج والإصابة بالعين يكون من الأول والثاني، فالمبدأ فيها حالة نفسانية معجبة تهتك المتعجب منه بخاصية خلق الله في ذلك المزاج على ذلك الوجه ابتلاء من الله تعالى للعباد ليتميز المحق من غيره. في تعليق القاضي حسين أن بعض الأنبياء نظر إلى قومه فأعجبوه فمات منهم في يوم سبعون ألفاً فأوحي إليه إنك عنتهم وليتك إذ عنتهم حصنتهم يقول: حصنتكم بالحي القيوم الذي لا يموت أبداً ودفعت عنكم السوء بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. - (ع طب ك) في الطب (عن عامر بن ربيعة) حليف آل الخطاب أسلم قديماً وهاجر إلى الحبشة، قال الحاكم صحيح وأقره الذهبي ورواه عنه أيضاً النسائي وابن ماجه، فما أوهمه صنيع المصنف من أنه لم يخرجه أحد من الستة غير جيد. 623 - (إذا رأى أحدكم مبتلى فقال الحمد لله الذي عافاني) أي نجاني وسلمني، قال في الصحاح: العافية دفاع الله عن العبد (مما ابتلاك به) قال الطيبي: فيه إشعار بأن الكلام ليس في مبتلى بنحو مرض أو نقص خلقة بل لكونه عاصياً متخلفاً خلع العذار ولذلك خاطبه بقوله مما ابتلاك به ولو كان المراد المريض لم يحسن الخطاب بقوله (وفضلني عليك) أي صيرني أفضل منك أي أكثر خيراً أو أحسن حالاً، وفي الصحاح فضله على غيره: حكم له بذلك أو صيره كذلك (وعلى كثير من عباده) مصدر مؤكد لما قبله (كان شكر تلك النعمة) أي كان قوله ما ذكر قياماً بشكر [ص 352] تلك النعمة المنعم بها عليه، وهي معافاته من ذلك البلاء، والخطاب في قوله: ابتلاك، وعليك: يؤذن بأن يظهر له ذلك ويسمعه إياه، وموضعه ما إذا لم يخف فتنته. قال بعض العارفين: الحديث وارد في حق العامّة، أما الكامل فينظر فيما انطوى عليه ذلك الابتلاء فإن كان كفارة أو رفع درجات لم يسأل العافية منه، والعارف يحمل كل حديث على حاله. - (هب عن أبي هريرة) وفيه سهل بن صالح قال ابن معين غير قوي. 624 - (إذا رأى أحدكم امرأة حسناء) بالمد ذات حسن قيد به لأن الإعجاب إنما يكون بها فلو رأى قبيحة (فأعجبته) لخبث طباعه كما يقع لكثير أنهم يميلون إلى العجوز أكثر من الشابة كان حكمه ما ذكر، وقوله فأعجبته: أي استحسنها لأن غاية رؤية المتعجب منه استحسانه، قال الراغب: والحسن عبارة عن كل منهج مرغوب فيه (فليأت) ندباً فإن تعين طريقاً لدفع المفسدة وجب (أهله) أي فليجامع حليلته ليسكن ما به من حر الشهوة خوفاً من استحكام داعي فتنة النظر (فإن البضع) بالضم الفرج أو الجماع (واحد) يعني الفروج متحدة المذاق غير مختلفة عند الحذاق، والبضع كما في المصباح وغيره يطلق على الفرج والجماع، كلاهما سائغ هنا. قال الزمخشري: ومن الكناية بضع المرأة جامعها، وباضعها بضاعاً وملك بضعها إذا عقد عليها (ومعها مثل الذي معها) أي معها فرج مثل فرج الأجنبية، ولا مزية لفرج الأجنبية، والتمييز بينهما من فخوخ الشيطان وتزيينه. أرشد من ابتلى بذلك إلى أن يداويه بجماع حليلته فإن فيه تسلية عن المطلوب بجنسه ولأن النظر يثير قوّة الشهوة فأمر بتنقيصها وذلك أن أول النظر الموافقة ثم الميل ثم المحبة ثم الود ثم الهوى ثم الوله، فالموافقة للطبع، والميل للنفس، والودّ للقلب، والمحبة للفؤاد، والهوى غلبة الحب، والوله زيادة الهوى. فمن مال قلبه إلى امرأة ولم يقدر على دفع ميله خيف عليه أن يزيد فيصير حباً ثم هوى موقعاً في الفاحشة، فأمر الشارع بإتيان حليلته ليتخلص عما في نفسه من الميل باندفاع الشهوة الداعية إليه. ويؤخذ منه ندب تكرير إتيانها إذا لم يندفع بأول مرة لاستيلاء الميل على قلبه وأنه يعجل ذلك ولا يمهل خوف المحذور. نقل ابن الحاج عن بعضهم أن هذا مستحب استحباباً مؤكداً فإنه يصون به دينه. لكن ينبغي أن يعلم أن المأمور به هنا الوطء بلا تفكر في محاسن تلك الأجنبية، أما لو وطئ حليلته متفكراً في تلك حتى خيل لنفسه أنه يطؤها فهذا غير مراد بالحديث، وفيه اختلاف ذهب بعض المالكية إلى حرمته فقال يحرم أن يجعل تلك الصورة بين عينيه فإنه نوع من الزنا كما قالوا فيما لو أخذ كوز ماء فصور في نفسه أنه خمر فشربه فإن الماء يصير حراماً. وذهب جمع شافعية إلى حله لأنه لم يخطر بباله عند ذلك التفكر والتخيل فعل زنا ولا مقدماته، فهو متناس للوصف الذاتي متذكر للوصف العرضي باعتبار تخيله ولا محذور فيه. فإن فرض أنه ضم له قصد الزنا بتلك الحسناء لو ظفر بها وصمم عليه حرم عليه. يؤخذ من التعليل أنه لو رأى امرأة فمالت نفسه للفعل بها ندب له إتيان حليلته وتكراره لتنقص شهوته وتنكسر حدّته. - (خط عن ابن عمر) قضية صنيع المصنف أنه لم يخرجه أحد من الستة وهو عجيب، فقد رواه مسلم وأبو داود والترمذي في النكاح بمعناه من حديث جابر بألفاظ متقاربة، ولفظ أكثرهم: إذا رأى أحدكم امرأة فوقعت في قلبه فليعمد إلى امرأته فليواقعها، فإن ذلك يرد ما في نفسه. 625 - (إذا رأى أحدكم بأخيه) في الدين (بلاء) أي محنة أو مصيبة في نحو دينه أو بدنه، سمي بلاء لأنه يبلي الجسم ويخلقه، [ص 353] وربما اشتد فأهلكه (فليحمد الله) على سلامته من مثله ويعتبر ويكف عن المناهي فإنها سببه ويدأب في العمل الصالح فإنه سبب كل خير (ولا يسمعه ذلك) أي حيث لم ينشأ ذلك البلاء عن محرم كمقطوع في سرقة لم يتسبب. ثم إن تقييد الرؤية بكونها في أخيه ليس لإخراج ندب الحمد لو رأى البلاء بنحو كافر وعدو ومجاهر، بل إنما قيد به لأجل قوله ولا يسمعه، فلو رأى البلاء بغيره حمد وأسمعه. - (ابن النجار) الحافظ محب الدين محمد بن محمود البغدادي صاحب كتاب جنة الناظرين في معرفة التابعين، وذيل تاريخ بغداد، والمعجم أو غير ذلك (عن جابر) بن عبد الله. 626 - (إذا رأيت الناس) أي وجدتهم (قد مرجت) بميم وجيم مفتوحتين بينهما راء مكسورة (عهودهم) جملة حالية أي اختلفت وفسدت وقلت فيهم أسباب الديانات والأمانات. قال الزمخشري: مرج وخرج إخوان في معنى القلق والاضطراب، يقال مرج الخاتم في يدي ومرجت العهود والأمانات: اضطربت وفسدت، ومنه المرجان لأنه أخف الحب والخفة والقلق من واد واحد أهـ: والعهود جمع عهد، وهو اليمين والأمان والذمّة والحفاظ ورعاية الحرمة والوصية. قال ابن الأثير: ولا تخرج الأخبار الواردة فيه عن أحدهما (وخفت) بالتشديد، قلت من قولهم خفت القوم قلوا (أماناتهم) جمع أمانة ضد الخيانة (وكانوا هكذا) وبين الراوي ما وقعت عليه الإشارة بقوله (وشبك) أي خلط (بين أنامله) أي أنامل أصابع يديه إشارة إلى تموج بعضهم في بعض وتلبيس أمر دينهم، فلا يعرف الأمين من الخائن، ولا البر من الفاجر (فالزم بيتك) يعني اعتزل الناس وانحجب عنهم في مكانك إلا لما لا بدّ فيه (وأملك) بقطع الهمزة وكسر اللام (عليك لسانك) أي احفظه وصنه ولا تجره إلا فيما لك لا عليك أو امسكه عما لا يعنيك. قال الزمخشري: من المجاز اخزن لسانك وسرك. وخصه لأن الأعضاء تبع له، فإن استقام استقامت وإن اعوج اعوجت كما مر (وخذ ما تعرف) من أمر الدين: أي الزم فعل ما تعرف كونه حقاً من أحوالك التي تنتفع بها دنيا وأخرى (ودع ما تنكر) من أمر الناس المخالف للشرع وانظر إلى تدبير الله فيهم بقلبك فإنه قسم بينهم أخلاقهم كما قسم بينهم أرزاقهم ولو شاء لجمعهم على خلق واحد فلا تغفل عن النظر إلى تدبيره تعالى فيهم فإذا رأيت معصية فاحمد الله إذ صرفها عنك في وقتك وتلطف في الأمر والنهي في رفق وصبر وسكينة فإن قبل منك فاحمد الله وإلا فاستغفره لتفريطك
|